كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فهذه كلمة جامعة من الحكمة والتقوى، إذ جمع لابنه الإرشاد إلى فعله الخيرَ وبثّه في الناس وكفه عن الشر وزجره الناس عن ارتكابه، ثم أعقب ذلك بأن أمره بالصبر على ما يصيبه.
ووجه تعقيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملازمة الصبر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يَجران للقائم بهما معاداةً من بعض الناس أو أذى من بعض فإذا لم يصبر على ما يصيبه من جراء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو شك أن يتركهما.
ولما كانت فائدة الصبر عائدة على الصابر بالأجر العظيم عُدَّ الصبر هنا في عداد الأعمال القاصرة على صاحبها ولم يلتفت إلى ما في تحمل أذى الناس من حسن المعاملة معهم حتى يذكر الصبر مع قوله: {ولا تصاعر خَدّك للناس} [لقمان: 18] لأن ذلك ليس هو المقصود الأول من الأمر بالصبر.
والصبر: هو تحمل ما يحل بالمرء مما يؤلم أو يحزن.
وقد تقدم في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} في سورة البقرة (45).
وجملة: {إن ذلك من عزم الأمور} موقعها كموقع جملة {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
والإشارة ب {ذلك} إلى المذكور من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما أصاب.
والتأكيد للاهتمام.
والعزم مصدر بمعنى: الجزم والإلزام.
والعزيمة: الإرادة التي لا تردد فيها.
و{عزم} مصدر بمعنى المفعول، أي من معزوم الأمور، أي التي عزمها الله وأوجبها.
{وَلَا تُصَعّرْ خَدَّكَ للنَّاس وَلَا تَمْش في الْأَرْض مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}.
انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعدّ نفسه كواحد منهم.
وقرأ الجمهور {ولا تُصاعر} وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر ويعقوب {ولا تصعّر} يقال: صَاعَر وصَعَّر، إذا أمال عنقه إلى جانب ليعرض عن جانب آخر، وهو مشتق من الصَعَر بالتحريك لداء يصيبُ البعير فيلوي منه عنقه فكأنه صيغ له صيغة تكلف بمعنى تكلف إظهار الصعَر وهو تمثيل للاحتقار لأن مصاعرة الخد هيئة المحتقر المستخف في غالب الأحوال.
قال عمرو بن حُنَي التغلبي يخاطب بعض ملوكهم:
وَكُنّا إذا الجبَّار صَعَّر خدَّه ** أقمنا له من ميله فتقَوَّم

والمعنى: لا تحتقر الناس فالنهي عن الإعراض عنهم احتقارًا لهم لا عن خصوص مصاعرة الخد فيشمل الاحتقار بالقول والشتم وغير ذلك فهو قريب من قوله تعالى: {فلا تقل لهما أُفَ} [الإسراء: 23] إلا أن هذا تمثيل كنائي والآخر كناية لا تمثيل فيها.
وكذلك قوله: {ولا تمش في الأرض مرحًا} تمثيل كنائي عن النهي عن التكبر والتفاخر لا عن خصوص المشي في حال المرح فيشمل الفخر عليهم بالكلام وغيره.
والمَرح: فرْط النشاط من فَرح وازدهاء، ويظهر ذلك في المشي تبخترًا واختيالًا فلذلك يسمى ذلك المشي مَرَحًا كما في الآية، فانتصابه على الصفة لمفعول مطلق، أي مَشيًا مرحًا، وتقدم في سورة الإسراء (37) وموقع قوله: {في الأرض} بعد {لا تمش} مع أن المشي لا يكون إلا في الأرض هو الإيماء إلى أن المشي في مكان يمشي فيه الناس كلهم قويّهم وضعيفهم، ففي ذلك موعظة للماشي مرحًا أنه مساو لسائر الناس.
وموقع {إن الله لا يحب كل مختال فخور} موقع {إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16] كما تقدم.
والمختال: اسم فاعل من اختال بوزن الافتعال من فعل خَال إذا كان ذا خُيلاء، فهو خائل.
والخُيلاء: الكبر والازدهاء، فصيغة الافتعال فيه للمبالغة في الوصف فوزن المختال مختيل فلما تحرّك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفًا، فقوله: {إن الله لا يحب كل مختال} مقابل قوله: {ولا تصاعر خدك للناس} وقوله: {فخور} مقابل قوله: {ولا تَمش في الأرض مرحًا}.
والفَخور: شديد الفخر.
وتقدم في قوله: {إن الله لا يحب من كان مختالًا فَخورًا} في سورة النساء (36).
ومعنى {إن الله لا يحب كل مختال فخور} أن الله لا يرضى عن أحد من المختالين الفخورين، ولا يخطر ببال أهل الاستعمال أن يكون مفاده أن الله لا يحب مجموع المختالين الفخورين إذا اجتمعوا بناء على ما ذكره عبد القاهر من أن {كُل} إذا وقع في حيز النفي مؤخرًا عن أداته ينصبّ النفي على الشمول، فإن ذلك إنما هو في {كل} التي يراد منها تأكيد الإحاطة لا في {كل} التي يراد منها الأفراد، والتعويل في ذلك على القرائن.
على أنّا نرى ما ذكره الشيخ أمرٌ أغلبي غير مطرد في استعمال أهل اللسان ولذلك نرى صحة الرفع والنصب في لفظ كل في قول أبي النجم العجلي:
قد أصبحتْ أُمّ الخيار تدّعي ** عليَّ ذنبًا كلَّه لم أصنع

وقد بينت ذلك في تعليقاتي على دلائل الإعجاز.
وموقع جملة {إن الله لا يحب كل مختال فخور} يجوز فيه ما مضى في جملة {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13] وجملة {إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16]، وجملة {إن ذلك من عزم الأمور} [لقمان: 17].
{وَاقْصدْ في مَشْيكَ وَاغْضُضْ منْ صَوْتكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَات لَصَوْتُ الْحَمير (19)}.
بعد أن بيّن له آداب حسن المعاملة مع الناس قفَّاها بحسن الآداب في حالته الخاصة، وتلك حالتا المشي والتكلم، وهما أظهر ما يلوح على المرء من آدابه.
والقصد: الوسط العَدل بين طرفين، فالقصد في المشي هو أن يكون بين طرف التبختر وطرف الدبيب ويقال: قصد في مشيه.
فمعنى {اقْصدْ في مشيك} ارتكب القصد.
والغَضُّ: نقص قوة استعمال الشيء.
يقال: غَضَّ بصره، إذا خفَّض نظره فلم يحدّق.
وتقدم قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغُضُّوا من أبصارهم} في سورة النور (30).
فغض الصوت: جعله دون الجهر.
وجيء ب {من} الدالة على التبعيض لإفادة أنه يغض بعضه، أي بعضَ جهره، أي ينقص من جُهُورته ولكنه لا يبلغ به إلى التخافت والسرار.
وجملة {إن أنكر الأصوات لصوتُ الحمير} تعليل علل به الأمر بالغض من صوته باعتبارها متضمنة تشبيهًا بليغًا، أي لأن صوت الحمير أنكر الأصوات.
ورفع الصوت في الكلام يشبه نهيق الحمير فله حظ من النكارة.
و{أنكَر} اسم تفضيل في كون الصوت منكورًا، فهو تفضيل مشتق من الفعل المبني للمجهول ومثله سماعي وغيرُ شاذ، ومنه قولهم في المثل: أشغل من ذات النّحْيَيْن أي أشد مشغولية من المرأة التي أُريدت في هذا المثل.
وإنما جمع {الحمير} في نظم القرآن مع أن {صوت} مفردًا ولم يقل الحمار لأن المعرف بلام الجنس يستوي مفرده وجمعُه.
ولذلك يقال: إن لام الجنس إذا دخلتْ على جَمع أبطلت منه معنى الجَمْعيَّة.
وإنما أوثر لفظ الجمع لأن كلمة الحمير أسعد بالفواصل لأن من محاسن الفواصل والأسجاع أن تجري على أحكام القوافي، والقافية المؤسسة بالواو أو الياء لا يجوز أن يرد معها ألف تأسيس فإن الفواصل المتقدمة من قوله: {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] هي: حميد، عظيم، المصير، خبير، الأمور، فخور، الحمير.
وفواصل القرآن تعتمد كثيرًا على الحركات والمُدود والصيغ دون تماثل الحروف وبذلك تخالف قوافي القصائد.
وهذا وفاء بما وعدتُ به عند الكلام على قوله تعالى: {ولقد ءاتينا لقمان الحكمة} من ذكر ما انتهى إليه تتبعي لما أُثر من حكمة لقمان غير ما في هذه السورة وقد ذكر الألوسي في تفسيره منها ثمانيًا وعشرين حكمة وهي:
قوله لابنه: أي بني، إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها أناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى، وحشوها الإيمان، وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيًا.
وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عز وجل حافظ، ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزًا، والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية.
وقوله: ضَرْبُ الوالد لولده كالسماد للزرع.
وقوله: يا بني إياك والدَّين فإنه ذل النهار وَهَمُّ الليل.
وقوله: يا بني ارجُ الله عز وجل رجاء لا يجرّئك على معصيته تعالى، وخَفف الله سبحانه خوفًا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه.
وقوله: من كَذب ذهب ماء وجهه، ومَن ساء خلُقُه كثُر غمُّه، ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم.
وقوله: يا بني حَملْتُ الجندل والحديد وكلَّ شيء ثقيل فلم أحمل شيئًا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئًا هو أمرّ من الفقر.
يا بني لا تُرسلْ رسولك جاهلًا فإن لم تجد حكيمًا فكن رسولَ نفسك.
يا بني، إياك والكذب، فإنه شَهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه.
يا بني، احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا.
يا بني، لا تأكل شبَعًا على شبَع فإن إلقاءك إياه للكلب خير من أن تأكله.
يا بني، لا تكُن حُلوًا فتُبلَعَ ولا تكن مُرًّا فتُلْفَظ.
وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلاَّ الأتقياء، وشاور في أمرك العلماء.
وقوله: لا خير لك في أن تتعلمَ ما لم تَعْلَم ولَمّا تعملْ بما قد علمت فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطبًا فحمل حُزْمَة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى.
وقوله: يا بني، إذا أردت أن تواخي رجلًا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذَره.
وقوله: لتكن كلمتك طيبة، وليكن وجهك بسطًا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.
وقوله: يا بني، أنْزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولابد لك منه.
يا بنيّ، كن كمن لا يبتغي محمدَة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء والناس منه في راحة.
وقوله: يا بني، امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكتَّ سالم، وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك.
وأنا أقفّي عليها ما لم يذكره الألوسي.
فمن ذلك ما في الموطأ فيما جاء في طلب العلم من كتاب الجامع: مالك أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور العلم كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء.
وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب وفيه فيما جاء في الصدق والكذب من كتاب الجامع أنه بلغه أنه قيل للقمان: ما بلغ بك ما نرى يريدون الفضل؟ فقال: صدقُ الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعْنيني.
وفي جامع المستخرجة للعتبي قال مالك: بلغني أن لقمان قال لابنه: يا بُني ليكنْ أول ما تفيد من الدنيا بعد خليل صالح امرأةً صالحة.
وفي أحكام القرآن لابن العربي عن مالك: أن لقمان قال لابنه: يا بني إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون وهم إلى الآخرة سراعًا يذهبون، وإنك قد استدبرت الدنيا منذ كنتَ واستقبلتَ الآخرة، وإن دارًا تسير إليها أقرب إليك من دار تخرج عنها.
وقال: ليس غنى كصحة، ولا نعمة كطيب نفْس.
وقال: يا بني لا تجالس الفجار ولا تماشهم اتق أن ينزل عليهم عذاب من السماء فيصيبَك معهم، وقال: يا بني، جالس العلماء ومَاشهم عسى أن تنزل عليهم رحمة فتصيبك معهم.
وفي الكشاف: أنه قال لرجل ينظر إليه: إن كنتَ تراني غليظ الشفتين فإنه يخرج من بينهما كلام رقيق، وإن كنتَ تراني أسود فقلبي أبيض.
وأن مولاه أمره بذبحح شاة وأن يأتيه بأطيب مضغتين فأتاه باللسان والقلب، ثم أمره بذبح أخرى وأنْ ألْقق منها أخبث مضغتين، فألقى اللسان والقلب؛ فسأله عن ذلك، فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا.
ودخل على داود وهو يسرد الدروع فأراد أن يسأله عماذا يصنع، فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها داود لَبسها وقال: نعم لَبُوس الحرب أنتت.
فقال لقمان: الصمتُ حكمة وقليل فاعله.
وفي تفسير ابن عطية: قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ فقال: الذي لا يبالي أن يراه الناس سيّئًا أو مسيئًا.
وفي تفسير القرطبي: كان لقمان يفتي قبل مبعث داود فلما بعث داود قطع الفتوى.
فقيل له، فقال: ألا أكتفي إذا كُفيتُ.
وفيه: إن الحاكم بأشدّ المنازل وكدرها يغشاه المظلوم من كل مكان إنْ يصبْ فبالحريّ أن ينجو وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة.
ومن يكن في الدنيا ذليلًا خير من أن يكون شريفًا.
ومن يختر الدنيا على الآخرة تفتْه الدنيا ولا يُصب الآخرة.
وفي تفسير البيضاوي: أن داود سأل لقمان: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحت في يَديْ غيري.
وفي درة التنزيل المنسوب لفخر الدين الرازي: قال لقمان لابنه: إن الله رَضيني لك فلم يُوصني بكَ ولم يرضَك لي فأوصاك بي.
وفي الشفاء لعياض: قال لقمان لابنه: إذا امتلأتْ المَعدة نامت الفكْرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة.
وفي كتاب آداب النكاح لقاسم بن يأمون التليدي الأخماسي: أن من وصية لقمان: يا بني إنما مَثَل المرأة الصالحة كمثَل الدهن في الرأس يُليّن العروق ويحسن الشعر، ومَثَلها كمثل التاج على رأس الملك، ومثلها كمثَل اللؤلؤ والجوهر لا يدري أحد ما قيمته.
ومثَل المرأة السوء كمثل السَّيْل لا ينتهي حتى يبلغ منتهاه: إذا تكلمتْ أسمعت، وإذا مشت أسرعت، وإذا قعدت رفعت، وإذا غضبت أسمعت.
وكل داء يبرأ إلاَّ داء امرأة السوء.
يا بني، لأن تساكن الأسد والأسْوَد خير من أن تساكنها: تبكي وهي الظالمة، وتحكم وهي الجائرة، وتنطق وهي الجاهلة وهي أفعى بلدغها.
وفي مجمع البيان للطبرسي: يا بني، سافر بسيفك وخُفّك وعمامتك وخبائك وسقائك وخيوطك ومخرزك، وتزود معك من الأدوية ما تنتفع به أنت ومن معك، وكن لأصحابك موافقًا إلا في معصية الله عز وجل.